تبادل الأدوار بين الإنسان والحيوان في رواية"زمن الخيول البيضاء"
بحث مشترك بعنوان:
تبادل الأدوار بين الإنسان والحيوان في رواية
"زمن الخيول البيضاء"
Reversal of Roles Between Animals and Humans in the Time of White Horses “Zaman al Khyool Albayda”
د. وفاء عوني الخضراء
Dr. Wafa Al-khadra
د. عالية صالح
Dr. Alia Saleh
جامعة عمان الأهلية
كلية الآداب والفنون
تبادل الأدوار بين الإنسان والحيوان في رواية
"زمن الخيول البيضاء"
ملخص:
تتفحص هذه الدراسة علاقة الإنسان بالحيوان من منظور ما بعد الحداثة /ما بعد الإنسانية، مبتدئة باستعراض تنظير وآراء مجموعة من المفكرين الغربيين أمثال نيتشه وكوخيف التي ترصد العلاقة بين الإنسان والحيوان، ومتتبعة لها في التراث العربي، ومسلطة الضوء على رواية " زمن الخيول البيضاء"، للروائي إبراهيم نصرالله، حيث تحوز الخيول فيها على البطولة وُتقاسم وُتبادل الشخصيات الإنسانية أدوارها، ويصورها الكاتب بتقنيات سردية مختلفة ومتعددة، وبفنية عالية، مثل اللقطات المشهدية مما يحمّل النص دلالات ومعاني كثيفة تفتحه على التأويل، ويجعل الرسالة التي يحملها النص ذات دلالات متعددة.
الكلمات المفتاحية: ما بعد الحداثة، تبادل الأدوار، الشخوص، الخيول.
Abstract
This paper examines a new paradigm of human-animal nexus which emerged as a result of a post-structural theory in general and the so-called post-humanism in particular. The paper begins with surveying the new concept of post-humanism focusing on surveying Western thinkers and theorists who contributed to the theory of post-humanism and examining it within the context of Arabic literature; Ibrahim Nasrralah's contemporary Arabic novel entitled the Time of White Horses is an example. The study reveals the unorthodoxy of the human-animal nexus through the reversal of roles between both in the aforementioned novel as portrayed by the novelist using various narrative techniques that helped in enriching the text with different levels of meaning.
Key words: post-structural theory, post-humanism, human-animal nexus, reversal of roles
لمحة موجزة عن الرواية:
رواية "زمن الخيول البيضاء – الملهاة الفلسطينية- "(2007) هي تتويج لسلسلة من الروايات التي كان قد بدأها نصر الله بروايات "براري الحمى" (1985)، و"الأمواج البرية" (1988)، و"عو" (1995)، و"مجرد 2 فقط"، (1993)، و"حارس المدينة الضائعة" (1998)، "و"شرفة الهذيان" (2005).
تتركّز أحداث الرواية في قرية "الهادية" (قرية خيالية تقع في وسط فلسطين بالقرب من القدس) وتمتد جغرافياً وبشرياً إلى يافا، وحيفا، والقدس، والخليل، وغزة -أي من أقصى الشمال إلى اقصى الجنوب-. أما الزمان الذي ترصده فهو الربع الأخير من القرن التاسع عشر وحتى عام النكبة 1948، فترة زاخرة بالأحداث التاريخية المفصلية.
شخوصها عائلة ممتدة عبر ثلاثة أجيال اشتهرت بحب الخيل والدفاع عن الوطن، توازيها ثلاثة أجيال من الخيل الأصيلة، تتبادل معها الحب والوفاء، وتشاركها النضال. لتنتهي الرواية بالمكان مدمرا وممحوا، ومقتولا فيه الفرسان والأفراس، ومشردا أبناؤه في بقاع الأرض المختلفة.
تتميز هذه الرواية برصد وسرد العلاقة الحميمة بين الإنسان والحيوان، وجميع مظاهر البيئة التي يعيش فيها الإنسان مع الحيوان. وتظهر التآلف وتبادل الأدوار. في عصر بات فيه الإنسان متوحدا مع ذاته، ومبتعدا عن عناصر الكون الأخرى.
بعض من علاقة الإنسان بالحيوان في التراث الإنساني:
أما إذا بحثنا عن العلاقة بين الإنسان الحيوان ؛فإننا نجدها قديمة قدم الوجود والقارات والحضارات والأديان، ومتذبذبة قربا وبعدا حسب الحاجة والظروف. فمنذ القدم أنطق الإنسان الحيوان ليعبر عن آرائه وعواطفه ومواقفه كابن المقفع (724-759 م) في" كليلة ودمنة"، ولينتقد نظاما سياسيا آخر كجورج أورويل (1945)في "مزرعة الحيوان". وليشهرالحكمة السياسية والحياتية مثلما فعل توفيق الحكيم(1940) في "حماره"، أو اسحق موسى الحسيني(1943) في "مذكرات دجاجة" وخالد الحسن(1986) في "مذكرات حمار وطني".
وتزداد الحاجة للاقتراب من المجتمع الحيواني عندما يشعر الإنسان بالاغتراب عن مجتمعه البشري، بسبب الظروف السياسية والحياتية والاقتصادية، فيلجأ إلى مجتمع الحيوان ليتنفس الصعداء، وليجد في ذلك المجتمع الراحة والطمأنينة بعيداً عن ظلم بني البشر. كما فعل "الشنفرى" في "لاميته" الشهيرة. وقد تكون قدرا حيث تربى سيف بن ذي يزن، وفقاً للأسطورة، لدى أمه الغزالة. وكذلك حي بن يقظان. وقد تكون معايشة بيئية حيث تحدث الفرزدق وجرير عن العلاقة مع الذئب.
ونجد في الحضارات القديمة من زاوج الإنسان مع الحيوان كتمثال أبي الهول عند الفراعنة، -رأس رجل على جسد أسد-، أو بعض آلهة اليونان، نصفها الأعلى إنسان، ونصفها الأسفل حيوان. وهذا التشكيل يحمل رمزيته ودلالته.
الأمثلة متنوعة على علاقة الإنسان بالحيوان، نجد في بعضها أن الحيوان حاز مرتبة أعلى من الإنسان بوصفه مانحا الرعاية للإنسان ومحافظا على بقائه كما يظهر في حي بن يقظان وسيف بن ذي يزن، ونجده في بعضها حاز منزلة الرمز كما في (كليلة ودمنة)و(مزرعة الحيوان)، وعندما يصعد إلى منزلة الرمز فإنه يتعالى على مرموزه ويحوز على مرتبة أعلى. وإن كان قناعا فهو أعلى من المتقنع به. ونجده في معادلة تمزج الإنسان بالحيوان، وتخصص الجزء الأعلى للإنسان، ليبقى الإنسان متفوقا على الحيوان فالعقل إنسان والجسم حيوان.
علاقة الإنسان بالحيوان في دراسات ما بعد الحداثة:
أنتجت دراسات ما بعد الحداثة\ما بعد الإنسانية post- strucuturalism : ,post- humanism رابطا يجمع بين الحيوان والإنسان يدعى human-animal nexus ظهر في العديد من كتابات جاك لآكان, فيليكس جواتاري وجين بودريلاند، التي تبين بأنه بالرغم من أن نظرية ما بعد الحداثة التي تعد لا سياسية وموظفة من واقعيات اقتصادية معاصرة، فإن تصريحاتها المتعلقة بالإنسان والحيوان تتوالف مع مجموعة من الخطابات المعاصرة التي تنادي بتحرير الحيوان (Spencer, 187-208).
إن نظرية ما بعد الإنسان في ما بعد الحداثة تنبثق من بعض نصوص فردريك نيتشه والكسندر كوخيف Friedrich Nietzsche and Alexandre Kojeve فكل منهما يقوم بتعريف الإنسان من خلال علاقته مع الحيوان. يقول نيتشه إن الإنسان يعيش في معظم الأحيان ككائن حيواني، وإن الوصول إلى الحضارة هو عبارة عن تفسيرات للحيوانية في داخل البشرية (159) وينظر إلى الإنسان على أنه حالة لا يمكن فصلها عن الحيوان، فعلى سبيل المثال في رواية نيتشه Spake Zarathustra Thus -وهي رواية مبنية على تركيب معقد من رمز الحيوان-. فالأسد في الرواية يرمز إلى زارا ثوسترا كائنا مبدعا يجمع الإنسان مع الحيوان. ويخلص إلى أنه يمكن للإنسان أن يصبح إنسانا مطلقا من خلال رؤاه الفلسفية التي تحرره من الحيوان في داخله، ويستطيع أن يكوّن نوازع سامية جديدة تفصله عن أناه الذاتية وتجعله محبا وعطوفا على الحيوانات (Nietzsche, 157-190). فالإنسان كما يعتقد نيتشه يستطيع أن يسمو على الحيوان الداخلي الذاتي بالاستعانة بالرؤى الفلسفية.
ويرى كوخيف: أن الإنسان يقوم بالانفصال عن الذات الحيوانية الداخلية من خلال الرفض لهذا الكائن أو هذه النزعة كمحاولة للإنكار أو التخلي عن المحافظة على الذات. ويرى في بعض الأحيان انتصار الحيوان الداخلي على الإنسان (Trans. 94-125).
وتميّز نظرية لاكان بين ثلاث مراحل من علاقة الإنسان بالحيوان، وهي: مرحلة التخييل imaginary حيث يشارك الإنسان الحيوان في بعض تكوين مفهوم الذات، ثم المرحلة الرمزية symbolic اللغوية (حيث يكون هناك تمييز كبير بين الإنسان والحيوان، ومن الممكن أن يتشاركا ببعض التشابهات اللغوية)، ثم مرحلة النظرة الواقعية (حيث يشارك الحيوان الإفتتان البشري) (Kojève, 41).
إن نظرية ما بعد الإنسانية في ما بعد الحداثة أتت ليس فقط لتفكيك هياكل التراكيب الثنائية التي أعطت الإنسان منزلة أعلى من الحيوان بل أصبحت تروج للعلاقة غير الثابتة ما بين الإنسان والحيوان، فأصبح الإنسان يترنح بين الإنسان والحيوان في داخله. فيرى نيتشه بأن الإنسان هو مزيج وتوليفة تجمع الاثنين معا، ولكن يمكن للإنسان أن يسمو على الحيوان إذا استطاع أن يطوّر رؤيته الفلسفية، ولكن في حالة السمو فإن الإنسان يكوّن علاقة حنان وتعاطف مع هذا الجزء الحيوان في داخله وخارجه. ويتحدث كوخيف عن رفض الإنسان للجانب الحيواني في داخله وخارجه، فيوصله هذا الرفض في واقع الحال إلى إنكار مفهومه لذاته. إن هذه الرؤية قد انعكست في صناعة الحيوان Animal industry وانعكست على المدارس المدافعة عن حقوق الحيوان وزادت من عددها. وكما انعكست في الخطاب الأدبي الذي أصبح يتعامل مع الحيوان كمكون أساسي في الرواية، ويحتل موقعا هاما وساميا فيها، فالعلاقة بين الحيوان والإنسان علاقة تكوينية تكاملية، تسعى لتشكيل الآخر من خلال تشكيل الذات، إنها علاقة تحاول أن تقوم على الانسجام والتصالح بين الإنسان والحيوان.
تحتل الحيوانات الأليفة موقعا وسطيا على الحدود بين "الإنسان"و"الحيوان"، وهي حيوانات مقدرة من أصحابها لكونها أفرادا عاقلة، أو أصدقاء قادرين على التفكير العاقل، وتمتلك العاطفة؛ولكن في الوقت نفسه يتم التعامل معها كأشياء أو ممتلكات يمكن التخلي عنها، إذا لم تتكيف مع توقعات الإنسان وقيمه(Lacan).
إن التطورات الحالية في النظرية الاجتماعية قد تثير الكثير من النزاعات السابقة المتعلقة بالتقسيم الثنائي بين الطبيعة والثقافة، والإنسان والحيوان، والحياة البرية والحضرية، وقد طرحت أسئلة نظرية وأخلاقية بخصوص علاقة الإنسان مع العالم غير البشري، ويعلن أصحاب هذه النظريات بأننا نعيش الآن عالم ما" بعد الإنسان ":وهو عالم يقوم على تفكيك وإزالة الحدود بين الإنسان واللاإنسان، وبين الطبيعة والمجتمع، وأصبحت الكائنات جميعها متداخلة ومتشابكة من خلال شبكة ونسيج من الأنشطة والعلاقات المتشابكة (Sanders, p525).
وتكمن الإشكالية بالعلاقة بين الإنسان والحيوانات الأليفة في إزدواجية مكانة الحيوان الأليف في التراث الإنساني كإنسان وكملكية. لذا على الناس أن يتفاوضوا بهذا الشأن في قراراتهم اليومية المرتبطة بشكل العلاقة والمعاملة مع الحيوان الأليف؛ فهذه العلاقة معقدة تتشكل من خلال علاقة كائنين معا فيها الكثير من الضوابط مثل السطوة والسيطرة بالإضافة إلى درجة من الشعور بالذنب والقلق وعدم الإفصاح عما يفكر ويشعر به هذا الحيوان الأليف، خاصة في المواقف التي لا تكون فيها العلاقة ناجحة.
وبالرغم من أن الإنسان هو العنصر المسيطر في هذه العلاقة (ومن الممكن أن ينظر إلى حيوانه كملكية، أو رمز، أو حتى لعبة يلعب بها) فإن العلاقة بينه وبين الحيوان أعقد من هذا التصور؛ فهذه العلاقة تتضمن مدى كبيرا من التبادل المتجاوب من الطرفين بالإضافة إلى العواطف المتبادلة بينهما لدرجة أن يتماهى مع الآخر. (529)
لقد استطاع النص الروائي المدروس أن يجسد مجموعة من هذه الطروحات التي تقدم بها النقاد في علاقات فنية جمالية تتضمن مدى كبيرا من التبادل المتجاوب من الطرفين في إظهار العواطف المتبادلة بينهما لدرجة أن يتماهى الواحد مع الآخر. وتم التعامل مع الحيوان مكونا أساسيا في الرواية، ويحتل موقعا هاما وساميا فيها، فظهرت العلاقة بين الحيوان والإنسان علاقة تكوينية تكاملية، تسعى لتشكيل الآخر من خلال تشكيل الذات، ومظهرة الانسجام والتصالح بين الإنسان والحيوان.
واستطاعت هذه الرواية أن تقوم على تفكيك وإزالة الحدود بين الإنسان واللإنسان، وبين الطبيعة والمجتمع، وأصبحت الكائنات جميعها متداخلة ومتشابكة من خلال شبكة ونسيج من الأنشطة والعلاقات المتشابكة.
علاقة الإنسان بالحيوان في التراث العربي:
وإذا انتقلنا إلى التراث العربي فإننا نجد نماذج مختلفة ومتعددة لعلاقة الإنسان بالحيوان، والحيوان بالإنسان ، نقصرها على علاقة العربي بالخيل وهو موضوع البحث. فمنذ القدم اهتم االعربي بتربية حصانه, وتشارك معه الخيمة، والطعام، وحليب الناقة في المواسم التي تسبق الأمطار ويغيب فيها العشب.
تكثر الدلائل والنماذج التي تبين مكانة الخيل في المجتمعات العريية قبل الاسلام وبعده. فهناك الكثير من المؤلفات التي أوردها محقق كتاب "الحلبة في أسماء الخيل المشهورة في الجاهلية والإسلام"(). أظهرت أن الحصان هو المال والجاه. وأن العرب كانوا يحتفلون عندما تلد الفرس.
وقد خلد العرب خيلهم بالآلاف من الأبيات الشعرية التي تصف شجاعتها، وجمالها، ووفاءها. وفخر مشاهير فرسان العرب بتكنيتهم بأسماء أفراسهم، فيقال فارس الأشقر، أو فارس ذي اللمة. والد عنترة الشاعر المشهور، شداد بن معاوية العبسي، وكان يعرف بفارس (جروة) اسم فرسه.
وقد نشبت حرب داحس والغبراء بين قبيلتي عبس وذبيان لسنوات طويلة بسبب خلاف حول سباق جرى بين حصان يدعى "داحس" وفرس تدعى "الغبراء" يملكهما قيس بن زهير بن جذيمة العبسي وحصان "الخطار" وفرس تدعى "الحنفاء" يملكهما حذيفة بن بدر الذبياني.()
ونظراً لمكانة الخيل عند العرب فقد جعلت الروايات الكثيرة منها أسطورة من الأساطير. فمن ناحية تذهب بعض الروايات إلى أن الله خلق الخيل من ريح الجنوب، ولذا فهي سريعة في العدو.() ومن ناحية أخرى يصف الرواة " البراق " الذي عرج به الرسول إلى السماء بأنه على هيئة حصان مجنح، ويٌروى أن " الميمون " كان حصانا مجنحا ركبه آدم في الجنة. وقيل إن الحصان سبق آدم في الخلق.
وتشير بعض الروايات المتعلقة بالخيل إلى أن أصل الخيول العربية ترجع إلى ما تبقى من خيل نبي الله سليمان بعد أن عقر أغلبها عندما ألهته بجمالها عن ذكر ربه، وتقول رواية أخرى إن أصلها يرجع إلى ما تبقى من الخيل بعد سيل العرم. وقيل إن النبي سليمان أهدى وفداً من عُمان من قبائل الأزد حصانا اسمه "زاد الركب"(). كان له شأن في تلك الأيام عند العرب، وتناسل منه الكثير من الخيول العربية الأصيلة.
وبمجيء الإسلام ارتفعت مكانة الخيل إلى مكانة روحية استمدتها من القسم بها "والعاديات ضبحا"وورود ذكرها في أكثر من آية، إضافة إلى كثرة الأحاديث النبوية التي تحث على العناية بالخيل وإكرامها، وقد فضلها الرسول على أصحابها في تقسيم الغنائم، فجعل للفرس سهمين ولصاحبها سهما().
وقد ربط أبو الطيب المتنبي بين الخيل والكتاب، دلالة على أهمية كل منهما فى الحضارة العربية وذلك في بيته الشهير:
أعزَ مكان في الدنى سرج سابح وخير جليس في الزمان كتاب()
لذا احتلت الخيل في نفوس العرب مكانة عظيمة، ومنزلة رفيعة، تعادل النفس والولد، وكان امتلاكها يدل على القوة، والمنعة، والهيبة، ونظرا لدورها الحاسم والمهم في المعارك والحروب، نشأت علاقة حميمة بين الفارس العربي وحصانه، وارتبط مصير كل منهما بالآخر، وامتدح الفارس العربي حصانه بنبله وذكائه وإخلاصه.
وظلت الخيل تحتل مكانة في الإبداع الأدبي العربي، في الشعر، والنثر، وحازت على عناوين أعمال أدبية، كما: في "الخيل والنساء"لعبد السلام العجيلي، مجموعة قصصية(1965)، و"الخيل، البحر، الجسد"، لجميل أبو صبيح، مجموعة شعرية، (1980)، و"أسطورة راكبي الخيل"، لدياب عبد، رواية(1985)، و"الخيول على مشارف المدينة"، (1980) مجموعة شعرية لإبراهيم نصرالله، وهذه الرواية "زمن الخيول البيضاء"(2007) موضوع دراستنا.
تحليل دور الخيول في الرواية :
الخيول شخوص روائية(). تدير الأحداث وتتحرك في الزمان وعلى المكان، وتشكل بعلاقاتها وانحيازاتها لب الرواية وعنصر التشويق والعقدة.
وتحقق إجابة لأسئلة هنري جيمس التي طرحها في مقالته المشهورة "فن القصة" ما الشخصية إن لم تكن محور الأعمال؟ وما العمل إن لم يكن تصوير تصرّف الشخصية. وما اللوحة أو الرواية إن لم تكن وصف طباع الشخصية؟"().
يستعيد الروائي في"زمن الخيول البيضاء"() الذاكرة، والمكان الممحو بخيول فاعلة كانت عنوان ذلك الزمان، هو زمن(الهادية) وناسها، زمن الامتلاء والحب والمشاعر والأحاسيس الرهيفة التي لرهافتها تستطيع أن تتواصل مع الآخرين وتلبي رغباتهم، وتحِدث لهم حالة الإشباع التي يريدون. إنه زمن تكون الحمامة (فرس) وسلالتها هي الفاعلة فيه والمحركة لبشره، وهي الكاشفة عن العادات والتقاليد والأعراف. وهي المجسدة للعلاقة الروحية الغامضة بين البشر والخيول، والمحيلة على طبيعة فلسطينية غنائية، توحّد بين الإنسان والأرض والحيوان والطيور. ومحققة مقولة الفرس من خيالها، وعاكسة مقولة: الفرس تصنع خيالها، علاقات حميمية متبادلة بين اثنين، تتماهى فيها الفرس بالأنثى المرأة، فحضور الفرس يستدعي حضور الأنثى التي تتبادل مع الفرس الصفات.
لقد تقدم الحصان على الإنسان في النص الذي اختاره الروائي ليكون عتبة من عتبات الرواية: "لقد خلق الله الحصان من الريح، والإنسان من التراب، وأضاف والبيوت من البشر "وذلك بعد عنوان الرواية في الصفحة الثالثة، حاز الحصان على المرتبة الأولى ثم جاء بعدها الإنسان، ثم البيت، ولكن الإنسان الفاعل المحب استطاع أن يحوز منزلة الخيل في العمل الروائي فنزلت إليه وصعد إليها ليصبحا في مرتبة واحدة. إنها العلاقة المتميزة التي تربط الفلسطيني العربي بجواده، وهي امتداد لعلاقة العربي بجواده، الممتدة منذ آلاف السنين. وتتعدى كونه أداة ينتقل بها، أو وسيلة للقتال، لتمتد إلى علاقة امتزجت بالحب والصداقة والوفاء.
من تراث كبير متراكم وممتد ومتواصل عربيا وعالميا نسل إبراهيم نصرالله شخوص خيوله، وأفرد لها مساحة من حيث الفاعلية الزمانية والمكانية والجمالية، وقد بدت هذه الشخوص متميزة شكلا ودورا وفاعلية، ومؤثرة في فعل غيرها، ومتميزة بفرادتها وخصوصيتها، إنها ذات أسماء وصفات وسلالة.
افتتحت الرواية بتقديم الشخصية، و"وصول الحمامة "العنوان الأول يشير إلى شخصية و"خيط هاد يمكّن من فك مزيج المكررات ويسمح بتصنيفها وترتيبها"(). عنوان ملبس، يلتبس فيه الاسم بامرأة، ثم بعد الدخول في القراءة نجد أن الاسم يختص بمهرة لها صفات فائقة من حيث البياض والنقاء، وبلقطة مشهدية يضعنا الروائي في داخلها ونتعرف من خلالها الشخصية والمكان والزمان حيث تقدمها عين الكاميرا التي تطل من عل. الحاج محمود إلى جانبه ولده خالد وعدد من الرجال يجلسون أمام المضافة، وقد رأوا كتلة من الضوء تتقافز نحوهم يعلوها فارس يشد لجامها:
"معجزةٌ كاملة تجسَّدتْ. . . أمام المضافة، تحت شجرة التوت، كان الحاج محمود يجلس بجانب ولده خالد، مع عدد من رجال القرية، رأوا في البعيد غباراً قادما، داهمه حسٌّ غريب، ومع مرور اللحظات، كان الغبار يتلاشى ويحتلُّ مكانَه بياضٌ لم يروه من قبل، ظلّ توهُّجه يزداد شيئاً فشيئاً حتى بانَ كلّه.
ولم يكن هناك ما يفتنهم أكثر من جمال مُهْرة أو حصان.
قال الحاج محمود ذاهلاً: أترون ما أراه؟
لم يسمعْ جوابا، التفتَ إليهم، فوجد أن المفاجأة أخذتهم، عاقدةً ألسنتهم.
عمَّ صمت طويل، لم يكن يقْطَعُه سوى ذلك العَدْو المجنون للكائن الذي بدا وكأنه قد خرج من حُلم.
كان الفارس يحاول، ما استطاع، السيطرة على كتلة الضوء المتقافزة تحته، كتلة الضوء التي تعانده غير عابئة بذلك الألم الجارح الذي يسببه لها اللجام، الألم الذي يتصاعد همهماتٍ محترقة مع حرارة اللهاث. تطلّعتْ كتلة الضوء إلى الأعلى وراحت تُطلق صهيلها المجروح. عند ذلك صاح الحاج محمود: يا رجال. هنالك حُرّة تستغيث. أَجيروها.
توقّفت الفرس أمامهم، أشبه بصخرة، كما لو أنها قد قررتْ أن تموت على أن تخطو خطوة". ص9
انبثقت الشخصية من الغبار الذي بدأ يتلاشى ويحتلُّ مكانَه بياضٌ لم يروه من قبل، ظلّ توهُّجه يزداد شيئاً فشيئاً حتى بانَ كلّه. كتلة الضوء المتقافزة، كتلة الضوء التي تعاند السارق غير عابئة بذلك الألم الجارح الذي يسببه لها اللجام، من الألم الذي يتصاعد همهماتٍ محترقة مع حرارة اللهاث. تطلّعتْ كتلة الضوء إلى الأعلى وراحت تُطلق صهيلها المجروح.
يتميز تقديم الشخصية بإظهار صفاتها الجمالية شكلا وحركة، فهي بيضاء، بياضها متميز وفريد، وهي نشطة ومتقافزة. وقد ألح المقدم على أنها كتلة من الضوء لإضفاء مسحة من القداسة عليها. إضافة إلى تقديمها من خلال الصوت الذي يحمل حسا ودلالة، إنه صهيل مجروح به تتواصل مع من يفهمونه، مما يستدعي من يسمعه إلى إغاثتها والتفاعل معها، لقد استطاعت أن تحوز على الانتباه والاهتمام من الجميع.
مفتتح يمهد لكل ما بعده، ينثر بذور الرواية الأولى، التي ستنمو وتصبح شجرة وارفة الظلال مثمرة بالثمار، تنكشف فيه القيمة والمشاعر والأحاسيس. حساسية شديدة تجاه الجمال، وذوق عال، وتوحد وتراسل بين الكائنات في المشاعر والأحاسيس التي تبدو من عبارة "الفارس وهو يشد لجامها وهي لا تتأثر"، الاحساس الرهيف تبادله الإنسان مع الفرس، وكأن هذه الفرس تعرف تفكير هؤلاء الناس فوقفت عندهم ,وهذا ما عبر عنه الحاج محمود بقوله : يا رجال. هنالك حُرّة تستغيث. أَجيروها. فالاجارة تكون للإنسان، كما أنه خلع عليها صفة المرأة الحرة. تبدأ الفرس بتوليد الأحداث فهي تؤثر وتتأثر، وترمي شباكها "لتمتد عبر الفضاء الروائي ولترتبط الأشياء ببعضها البعض"().
تبدأ حكاية عشق بين خالد والفرس. التي عوضته عن زوجته التي فقدها، وقد كان أحبها حبًّا حسدَتْها عليه النّساء واستهجنَه الرجالُ، فَفَقَدها مرّتيْن، مرّة عندما أقسمَ ثلاثًا " عليّ الطّلاق إنّها أجمل من الشّمس ومن القمر"ص17. . ومرة بعد أن استعادها بذكاء الشّيخ ناصر العلي، فقَدَها إلى الأبد عندما استبدلتْ ثلاث بيضاتٍ بحفنتي قطّين أكلتها فماتت وجنينَها.
استعاض خالد عن زوجته بحبّه للفرس البيضاء "فضّة" التي أتتهم مسروقة ضائعة فغنّى الحاج محمود:
" إذا ما الخيلُ ضيّعها أناسٌ حميناها فأشركتِ العيالا
نُقاسِمُها المعيشةَ كلَّ يومٍ ونكسوها البراقع والجِِلالا" ص11
من لحظتها صار خالد و«الحمامة»، - وهو اسمها الذي ستعرف به من يومها-، زوجاً واحدا، يناديها بصوته فتصهل مجيبة. فينسى خالد شبقه المتصاعد للزواج، ورغباته التي كان يفصح بها لأمه وأبيه بأنه صار مستعدا للزواج وتواقا له. بعد أن قابل «الحمامة» صار أبواه وكل القرية أيضاً يتساءلون: "هل سرقت «الحمامة» قلبه، وأقفلته فما عاد لبقية الإناث فيه أي نصيب؟"ص74
"ذات ليل ألقى بسرج الحمامة بعيدا، وقد أحس أن لا شيء يجب أن يفصله عنها، هبط السفح، وصل إلى طرف السهل بعيدا عن بيوت القرية، نزع ثيابه، طواها بعناية، وضعها تحت جذع زيتونة، وقفز فوق ظهر الحمامة. ليلة بأكملها انطلقا معا، لم يتوقفا فيها لحظة، حتى أحس بأن ثمة أجنحة قد نبتت لها، وأنهما يحلقان في السماء، لاحت له الخيوط الأولى من الفجر. . . أحس أن جسده قد تسرب واستقر عميقا فيها، كما تسرب جسدها واستقر عميقاً فيه. عاد إلى جذع الزيتونة. . . هبط أخيرا. ارتدى ملابسه، كان هنالك شيء غريب يملؤه، شيء لا يوصف. وحين راح يخطو خطواته بجانبها، لاحظ مشيته، فأدرك أنه قد تحول إلى حصان ". ص26
توحد والتحام وحلول، حصل ليلا بين الفرس والفارس في طرف السهل البعيدعن بيوت القرية، انطلق من جذع زيتونة، ليعود إليها وقد تحول حصانا. لتظهر ثنائية التبدّل القويّة الواضحة بين الحصان الذي خلقه الله من ريح، والإنسانِ الذي خلقَه اللهُ من ترابٍ. ويظهر في هذا المشهد أن الشخصية الروائية "كيان فني مكتف بذاته، مادتها الواقع، ولكنها بعد أن تشكلت في قالب لغوي روائي، فقدت صلتها بالواقع الخارجي لتصبح صلتها به رمزا لغوياً، يعبر عن رؤية فنية، ولا يقرر حقيقة حرفية للواقع"().
هذا التوحد والانسجام لا يدوم، لأن أهل الفرس "فضّة" سرعان ما وجدوها، فعليه أن يعيدها لهم، فيفقدَ حبَّه ثلاثَ سنواتٍ، وكاد يفقد حياته، حتى خرجت له من الحلم فرس أصيلة، هي ابنتُها التي أسماها "الحمامة"، رمز الحريّةِ والانطلاقِ والسلامِ والحياةِ فأصبحت "الحمامةُ" حبيبتَه وأمَّهُ وأختَهُ ورفيقتهُ في تشرّدِهِ ومقاومتِه للأتراك والإنجليز والمستوطنين. فيتواصل عهد عشقه مع «الحمامة» الابنة، كما لو أنه لم ينقطع. وذات يوم، وهو مع «الحمامة»، يلحظ خالد في بيدر ما «ياسمين»، فتاة طالعة من الطبيعة من الحقل من حيث يُصنع الجمال، فيبهر. ليجد حلا لتساؤله الدائر في خلده. من أين له بامرأة ببهاء «الحمامة»؟ فيأتيه الجواب بغتة، في الزمان والمكان حيث ثار السؤال. يلف عنق فرسه ويتجه إلى صاحبة الوجه الوضاء بجمال آسر. من أين طلعت هذه المعجزة؟ «توقفت وراحت تتأمل الفرس، وكان يتأملها. وبهدوء استدارت عيناها نحوه وحدقت فيه. ولم تقل سوى ثلاث كلمات ستكون كافية لتغير حياته: أتعرف. . . هذه أنا! وهي تشير للحمامة»ص83. وعندما رجاها أن تخبره عن اسمها ليطلبها من أهلها. لا تتباطأ في مشيتها ولا تستعجل، لكن تمنحه ابتسامة فيها براءة ومكر وخفر وتحد. تشير بيدها نحو الفرس البيضاء وتقول له «اسألها». تعلق منديلها في جبهة «الحمامة» وتمضي بابتسامتها الغامضة. يظل المنديل رفيق خالد حتى لحظة اختراق الرصاص جسده. يعود إلى أهله، ويسارع إلى خطبتها، وتمر سنوات على خطبتهما، لأن خالدا صار مطاردا من الانجليز، مما أدى إلى فسخ الخطبة. ويوم استشهد بعد سنوات طويلة على قصة الحب التي شهدتها «الحمامة»، كان قد تزوج من أخرى، وأنجب أولادا. وكانت ياسمين قد كبرت، وتزوجت غيره، وتابعت أخبار بطولاته القادمة من الجبل بدمع صامت لا يراه أحد. عشق بريء قادته الحمامة الابنة، وعايشته مع صاحبيه، ظل هذا العشق ممتدا حتى لحظة الموت. عشق حال دون تواصل صاحبيه مطاردة الإنجليز للعاشق. حالة من الصفاء والاخلاص يئدها الاستعمار، ويترك آثارها مريرة في نفوس أصحابها. حالة نموذجية للعشق العذري، ونماذج متميزة وأصيلة، منتقاة من الواقع، بصفات منتخبة، لتقوم بالدور الوظيفي الذي احتلته في النص. وهذا لا يتنافى مع أقوال المنظرين الذين يرون أن "الروائيين ينتقون صور شخصياتهم من الواقع لا لغاية المحاكاة الفجة والاستنساخ الحرفي، وإنما لإبداع نماذج متميزة وأصيلة، فهم يتصرفون فيما ينتقون، يزوقون سمة، ويشوهون أخرى، يعوضون مزاجاً بآخر، ويبرزون طبعاً على حساب طبع. حسب الموقع الوظيفي الذي تحتله الشخصية في النص، باعتباره كلاً"().
رافقت الحمامة الحاج خالد في الجبال وكانت خير رفيق، كان يبوح لها ويناجيها ويتحسسها "لمس جبهتها برفق، هزت رأسها كما لو أنها تريد أن تقول شيئا، احتضن وجهها، ثم انحنى وقبل قدمها اليمنى برفق وأنزلها، ثم اليسرى وأنزلها. نهض، حدّق في عينيها مباشرة وقال لها:اليوم يومك. وقفز فوق ظهرها"ص373. وبعدها وقع في مواجهة كمين أعده الأعداء للقضاء عليه، أصيب بعدة إصابات قبل أن يسقط عن فرسه التي حاول الأعداء أن يبقوا على حياتها، سقط فارسها، وعدت مسرعة إلى أهله وبيته، تنقل لهم الخبر، ثم عادت إلى حيث تركت فارسها. وفاء وإخلاص يتبادلهما كائنان. أجبرت المرأة على ترك من تحب لظروفه التي يعيشها، أما الفرس فلا شيء يجبرها على ترك رفيقها، لا توجد منظومة اجتماعية تقيدها، هي حرة تستطيع أن تمارس حريتها، فتحقق المقولة التي وصفها بها الحاج محمود في مفتتح الرواية :"هناك حرة أغيثوها ". في سلوكها هذا تبدو أعلى مرتبة من الإنسان، أي من :المرأة الحبيبة. لأن الفرس لا تقيدها الاشتراطات الاجتماعية التي تقيد المرأة. فتعيش كما تملي عليها مشاعرها.
لقد أخذت الفرس مكان المرأة في أكثر من مرحلة من مراحل حياة هذا الفارس، وهي التي قادت الفارس إلى المرأة، لذا نستطيع أن نقول إن الفرس أخذت مكانة أعلى من المرأة وأعلى من الرجل، ، لكن الرجل الفارس استطاع أن يتساوى مع الفرس في المنزلة بعد عملية التوحد التي حدثت بينه وبين الفرس ليلا، فنزلت إليه وصعد إليها.
وتأتي قصة زواج ناجي ابن الحاج خالد لتظهر جانبا آخر من التبادل في الإحساس بين الإنسان والحيوان والمكانة التي تحظى بها الخيل في ذلك المجتمع الرعوي. قررناجي الزواج وعندما أبدى رغبته بقيامه بطقس تكسير صحون أمه، أرادت أمه أن تعرف من هي العروس التي وقع الاختيار عليها فكانت خديجة بنت سالم الدقر. التي كانت تنعت بالهبلة، ولكن إصراره على الزواج منها، كان من أجل الوصول إلى المهرة الشهباء التي تملكها. خديجة لديها مهرة لها مواصفات متميزة، تستثير الناس لشرائها. مما دفع الحاج خالد ليرسل إلى والد خديجة من يسأله عن مقدار ثمن المهرة، فرد قائلا : إنها ليست للبيع. هذه مهرة خديجة، وحين يأتيها النصيب ستخرج إلى بيت زوجها على ظهرها!!"ص233. لن تكون المهرة إلا لمن يتزوج البنت!!. لذا أطلقت شائعات أن والد خديجة يدللها أكثر من ابنته، لإنه يعرف أنها باب المستقبل لابنته.
خوفا على ناجي خطب الحاج خالد خديجة لابنه، وعندما كان يذهب ابنه لزيارة خطيبته كان يبدي شغفا برؤية الشهباء، أكثر مما يبدي من شغف برؤية العروس. فكان ما أن يجلس حتى تذهب عيناه للبحث عن مهرته، وحين نادت أم خديجة طالبة منها الدخول في أول زيارة لهم:لا تخجلي يا عروستنا. تعالي. توقع ناجي أن تدخل الشهباء من الباب، لا خديجة. في ليلة زفافه استأذن عروسه وخرج. وعندما استطولت أمه غيبته وتقافز قلبها بين رجليها ذهبت لتجده يحتضن رأس الشهباء ويقبل جبينها، فصاحت ياخراب بيتك ياسمية. ما الذي تفعله؟ ص237.
الشىء الغريب الذي حدث بعد ذلك، أن ناجي الذي تذوق حلاوة جديدة لم يكن يتصورها، لم يعد يغادر البيت، انزرع في الفراش، وتشبث به كما لو أنه أحد خيوطه. لم يكن يظن أن هناك عالما مثل عالم خديجة التي تفتحت كوردة وراحت تزوم كأنها الشهباء بدلال لم تتقبله سمية، و"لولا أن خديجة عروس جديدة لأسمعتها كلمتين ناشفتين"ص237.
تحدثت سمية إلى ناجي وقالت:"تعرف يا ناجي يا حبيبي، لقد أعطوك المهرة والعروس، وهم يقولون الآن، مادمت رضيت بالعروس، فلتعد لهم الشهباء التي لا تلتفت إليها. مهرتهم غالية عليهم كابنتهم، وإذا لم تنتبه فسيأخذونها منك، قلت نعم أو قلت لا.
-وبأي حق يستطيعون أخذها ؟
- لأنك تهملها، ولن يمضي وقت طويل قبل أن تموت بسبب الإهمال.
- هكذا إذن!
- نعم هكذا إذن.
- خلاص. أعيدها إليهم!!
فقدت سمية هدوءها دفعة واحدة : إلا هذا ! هل جننت؟ ماذا سيقول الناس. ناجي ابن الحاج خالد لم يستطع أن يقوم بواجبات مهرته. يا عيبك.
لكن الأمر تغير حين وجد ناجي أن عليه أن يعول بيته بنفسه، وأنه لم يعد ذلك الشاب الذي يسير حرا بأكتاف خفيفة.
قال له الحاج خالد: الحمد لله. مبارك هو البيت الذي يخرج منه بيت. وظل يرددها حتى أدرك ناجي أن الزمن تغير.
لكن الشهباء لم تتربع على ذلك العرش الذي تربعت عليه ذات يوم" ص238.
تظهر الفرس أعلى مكانة وقيمة من المرأة، فتتخذ بابا للمرأة، وبها يحدث التوازن الإنساني، والحياتي. ظهر طالبها وعاشقها متطرفا في تعلقه بها، ثم تركها وتعلق بالمرأة، وجاءت الأسرة لتنبهه إلى الموازنة بين عناصر الحياة المختلفة، ليصبح صاحب أسرة ومسؤولا عنها. كانت المهرة العنصر الفاعل والموجه إلى الحياة وهو بدوره أظهر مشاعره نحوها بسخاء وتطرف.
ناجي وخديجة قصة حياة فتحت أبوابها الشهباء، التي كانت تتميز بصفاتها، أما خديجة فكانت تنقصها الصفات التي تجعلها محط الأنظار، فارتباطها بالمهرة أعلى من صفاتها، وأبعدها عن التهميش. مما جعلها في مركز الفعل وأظهر صفاتها التي كانت خافية عن أعين الناس، لأنها كانت خارج دائرة الفعل، فبعد أن كانت تستثير الشفقة كونها هبلة، صارت تستثير الغيرة من الأخريات، لسلوكها الذي تغير، وللمكانة التي حظيت بها. وكان العنصر الفاعل والمحرك في كل هذا هو الشهباء. الشهباء التي أظهرت كثيرا من المواضعات الاجتماعية التي يتقيد بها الناس في ذلك المجتمع، وهي إلحاق العار والفضيحة بالمالك الذي لا يحسن الرعاية والعناية بفرسه، كذلك تتأثر الفرس وتموت إن لم تجد العناية الكافية من مالكها.
لكن كل القصص تصغر أمام قصة «الأدهم» و«ريحانة». كان «الأدهم» حصانا عملاقاً، جبلا من الكبرياء لا يرتقيه إلا صاحبه. يجندل الصاغرين والعابثين ويبحث عن العشاق الذين في عيونهم برق مصوب نحو قلب الأفق. يحنو على «ريحانة» وزوجها ويبادلانه الحنو. ويوم خطف «الهباب» أحد كبار العملاء في المنطقة ومن نشروا الرعب في قلوب أهل القرى «ريحانة» وقتل زوجها أمامها لم يستطع أحد مواجهته –لأنه يحتمى دائما بالنظام القائم إن كان تركيا أو إنجليزيا -. يوم الخطف استجمعت «ريحانة» كل شجاعتها وشتمت أهل القرية، وغياب رجالها، وجبنهم. وقالت «للهباب» الوحش: تستطيع التمكن مني لأنك الأقوى، لكني أمنحك نفسي طواعية إن استطعت ركوب «الأدهم». كانت «ريحانة» قد خلت بـ«الأدهم» يوم خُطفت فأحنى لها رأسه وهمست في إذنه طلبا صغيرا، لا تدعه يركبك. هاج الأدهم، وماج، وقلب «الهباب» عن ظهره. مرت سنوات و«الهباب» لا يستطيع الاقتراب من «ريحانه» بسبب «الأدهم». مما أدى إلى رفع وتيرة غضب «الهباب» وقتل «الأدهم» بالرصاص، بعدها مات هو الآخر.
مثل هذه العلاقة تكشف عن تفاهم عميق وتحالف ومقاومة، مقاومة نفذها "الأدهم"، وانتصر فيها لصاحبه وصاحبته، ودفع حياته ثمنا لها، وحررالمرأة من مغتصبها، وحماهما من بطش الظالم. استطاع أن يفعل ما عجز الرجال عن فعله، في مقاومة المعتدي. إنها العلاقة المتساوية والعميقة بين الإنسان والحيوان.
وتتوج المشاهد جميعها حكايات فاطمة بنت الحاج خالد مع مخلوقات الطبيعة، فاطمة كانت الأقرب لقلوب الخيول والماعز والأبقار وبقية المخلوقات المنتشرة التي تملأ ساحات البيوت والسهول المحيطة، إذ أمضت طفولتها في صحبة هذه الحيوانات، فمرة يتعلق بها كتكوت فيتبعها إلى حيث تمضي، ومرة معزاة أو بطة أو حمامة، ولعل تأخر ميلاد أخت لها إلى زمن طويل، دفعها للبحث عن أخت بديلة، ولم يكن صعبا عليها أن تجدها مادامت تعيش في قرية الهادية. كان مجرد اقترابها من حصان كافيا لكي يأتي ويدس رأسه تحت ذراعها، أما الماعز فكانت تتبعها وكأنها أمها، وحين هاج جمل إيليا راضي ولم يستطع أحد الاقتراب منه، قالت :اتركوه لي. حاولوا أن يمنعوها، لكنها قالت :أعرف ما الذي أفعله. أتركوني.
فتحت بوابة الحوش، حيث كان الجمل يحاول اجتياز الأسوار دون هوادة، محطما كل شيء، وما أن رآها حتى تراجع قليلا، وراح يحدق في عينيها لاهثا، أطلق صوتا غريبا لا شبيه له، لوى عنقه بعيدا، وتجمد للحظات، وحين استدار بعينيه ثانية إليها، كان لهاثه قد اختفى، لكن سيل العرق المختلط بالدم كان ينز من أنحاء كثيرة في جسده. وكانت خائفة. إنها المرة الأولى التي تجد فيها نفسها وجها لوجه مع جمل هائج، تقدمت خطوة، تراجع الجمل خطوات، التصقت مؤخرته بباب الغرفة التي خلفه ، تقدمت ثانية، حاول التراجع، أدرك أن لا مجال لذلك، فخطا نحوها خطوتين وتوقف. كانت الرؤوس تطل من فوق السور ومن بوابة الحوش والأعين مفتوحة على اتساعها، في حين كانت زوجة إيليا وبناته الخمس الجميلات يرتعدن خوفا فوق سطح البيت.
- "طلقة واحدة يمكن أن تحل المشكلة. قال الختيار جمعة أبو سنبل. لكنها قالت: امنحوني الفرصة.
- حين وصل الحاج خالد أخيرا جن بسبب سماحهم لابنته بالدخول إلى الحوش والوقوف وجها لوجه مع هذا الوحش الهائج، والجميع يعرفون أن غضبة الجمل لا توازيها غضبة حيوان آخر.
- أبعدهم عن البوابة شاقا طريقه إلى حيث هي، وقبل وصوله إليها، رأت الجمل يتراجع ثانية، التفتت خلفها، رأت أباها:أرجوك. لقد انتهى الأمر. اتركني قليلا معه.
- تجمد الحاج خالد في مكانه، خائفا أن تصدر عنه أي حركة تثير الحيوان الرهيب.
- لم يتراجع الجمل أكثر، وتراجع خالد.
- لم يعرف أي منهما، فاطمة والجمل، ما عليه أن يفعل بعد ذلك ؛ هل تتقدم نحوه أم يتقدم نحوها؟ حسمت فاطمة الأمر وتقدمت خطوتين، لم يتراجع الجمل، لم يتقدم، تقدمت خطوتين أخريين، وظل في مكانه، لكن عنقه مشرع في الفضاء كسيف وعينيه مشتعلتان ببرق غريب.
- بعد أكثر من نصف ساعة من تحديقهما في أعين بعضهما البعض راح رأس الجمل يميل قليلا قليلا نحو الأرض. وفي تلك اللحظة أدرك الجميع أن فاطمة قد نجحت مرة أخرى.
بدأت تسير نحوه بهدوء، واثقة من أن كل شيء انتهى.
أمسكت رأسه براحتيها وراحت تمسده، رفع عينيه قليلا، نظر إليها كما لو أنه يعتذر، دارت حوله ممسدة جسده براحتها الصغيرة، وحين عادت من الجهة الثانية، حرك رأسه وألقاه على كتفها بصمت. كان يبدو كطفل أكثر من أي شيء آخر، وللحظة أوشكت أن تبكي عليه.
امتدت يدها باللجام إلى رأسه، ألقته عليه، لم يتحرك، وفي لحظة أدهشت الجميع رأوه يفتح فمه الهائل ويساعدها في إتمام ما عليها"ص199-200.
كان قرار أهل القرية ذبح الجمل وتوزيع لحمه على الناس، هذا القرار لم توافق عليه فاطمة، وبعد ذبح الجمل ظلت ترى قطعا من لحمه في كوابيسها.
"لم تستطع فاطمة تجاوز كابوس جمل إيليا إلا في غروب ذلك اليوم الذي رأت فيه ذلك الفارس مندفعا خلف غزالة في التلال الشرقية المحاذية لسهول القرية.
ارتبك وقد أصبحت الغزالة في منتصف المسافة بينه وبين فاطمة، فاطمة التي بدا ظلها طويلا إلى حد لم ير من قبل ظلا مثله. لكن الذي أدهشه أن الغزالة ظلت تركض نحو فاطمة، في الوقت الذي كان عليها أن تنعطف وقد رأت آدميا في طريقها. خفف من سرعة انطلاق فرسه وهو يرى الغزالة تبطىء سرعتها، وتواصل تقدمها نحو تلك الفتاة الغامضة ذات الظل الطويل؛وفجأة، راحت تسير كما لو أنها ترعى بأمان، وقد نسيت تماما ذلك الفارس الذي كان يحاول الإمساك بها قبل لحظات، إلى أن وصلت إلى فاطمة، توقفت الغزالة وألقت نظرة بعيدة على ذلك الفارس، وكأنها تقول له:لن تستطيع أن تفعل شيئا الآن!أحس الفارس بأنه على وشك السقوط من هول المفاجأة، تجمد في مكانه، محاولا أن يدرك كنه ما يدور(هل تكون الغزالة غزالتها؟ولكن من يمكنه أن يربي غزالة ويطلقها خارجا في السهول؟!)
بعد صمت طال، تقدم، عرفته، إنه أخو خضرة، ورآها تهمس للغزالة، الغزالة التي انطلقت مبتعدة تتهادى، وقبل أن تختفي سمع فاطمة تصيح:انتظري. فتوقفت الغزالة، أدارت رأسها، فصاحت فاطمة بفرح:مع السلامة"ص213.
لم تعرف كيف أن ظلها كان قد التصق بظل الفرس ومن عليها، وأنه كان يطول كلما ابتعدت، دون أن ينحرف أبدا، إلا أن الفارس الذي لاحظ ذلك، أدرك أن مصيره قد بات معروفا، وأن الحياة التي قد كتبت له، تبدأ هناك، مع بدايات ذلك الظل الطويل، الظل الذي لا نهاية له، الظل الذي راحت الكحيلة تتبعه. حاول الفارس أن يوقفها عندما لاحظ ذلك، لكنها وللمرة الأولى لم تستجب له، شد رسنها، فشبت صاهلة، لوى عنقها، قاومت، ثم تقافزت في الهواء مجنونة، إلى أن سقط عن ظهرها، وقبل أن يستفيق من هول المفاجأة، رأى الكحيلة تتبع تلك الصبية إلى أن وصلتها، اقتربت منها فاطمة همست بشىء لم يعرفه أحد سواهما، فعادت الفرس إلى خيالها الذي تجمد في البعيد، غير قادر على أن يعود دونها ص214.
تتفوق فاطمة على شخوص مجتمعها بشموليتها وتعدد علاقاتها مع الحيوانات، فالحيوانات الأليفة وغير الأليفة تقترب منها، وتنقاد لها، وتطاوعها. ولكنها تشبههم في علاقتها بالخيل، فرس ترسم مصير حياتها، حين تركت فارسها وسارت وراء فاطمة ليلحق بها فارسها وينقاد إلى مصيره، وتكون فاطمة نصفه الآخر. فاطمة الشخصية التي استطاعت أن تتواصل مع كل كائنات البيئة، وتبادلها الشعور، وتستشعر حاجاتها، أذابت الحواجز واستطاعت أن تنتقل بسهولة ويسر من الإنسان إلى الحيوان. لكن من حولها لا يملكون ما تملك من الحس، لذلك قاموا بذبح الجمل بعد أن استخدمت أحاسيسها النافذة في تهدئته، وإعادته إلى حالته الطبيعية، مما جعلها تعتقد أنها كانت السبب في ذبح الجمل، وظلت فترة طويلة تشاهده في مناماتها. مثلت فاطمة النموذج في علاقتها بالحيوان من حيث العلاقة التكونية التكاملية، وتشكيل الذات والآخر، إضافة إلى أن هذه العلاقة تجمع الانسجام والتصالح بين الإنسان والحيوان.
جل شخصيات عائلة الحاج خالد قادرة على تشكيل ذاتها من خلال علاقتها بالآخر الحيوان، لذا نلحظ أن الخيول رسمت أقدارها. وقاسمتها البطولة، وكانت الخيول والشخوص ذواتا فاعلة تسعى إلى تغيير العالم من حولها (). وايصاله إلى حالة من الجمال والكمال الروحي.
حتى العدو لم يفلت من غواية الخيل العربية مع قسوة قلبه، كانت نقطة ضعف بترسون الإنجليزي الذي كان يلاحق الثوار، ويهدم بيوت العرب، هي الحصان العربي الذي وجد فيه أجمل مخلوقات الله. وقد وصل به الأمر أن قال ذات يوم :الشىء الوحيد الذي يجعل الحياة محتملة هنا هو وجود هذه الحيوانات الساحرة : الخيول.
حين رأى الخيول أمامه، أوشك أن ينسى المهمة التي جاء من أجلها وهي "نسف بيت"، تقدم من أحدها، ربت على ظهره، ثم استدار حوله يتأمله، وفي لحظة خاطفة قفز فوق ظهر الحصان وراح ينحدر باتجاه السهل أمام ذهول الجميع ؛ قطع السهل مرتين ذهابا وإيابا، وعيون الناس تتابع الغبار المتصاعد نحو السماء وقبل أن يفتح أي منهم فمه ليقول ولو كلمة واحدة، رأوه يتجه عائدا، حين وصل، قفز من فوق ظهر الحصان برشاقة فارس، وربت على ظهره بمحبة نادرة، ثم التفت إلى جنوده وقال:حين ننتهي من كل هذا الخراء سأشتري حصانا كهذا وأعود به إلى انجلترا. تستطيع الخيل أن تحدث أثرا حتى في العدو، وتلهيه عن المهمة التي جاء من أجلها، فماذا تفعل بأصحابها؟. استطاع الحصان أن يكشف جانبا من شخصية تبدو فاقدة لكل شيء، إلاّ دورها الوظيفي الذي يتمثل في القتل والتدمير وممارسة العنف على الشعب الفلسطيني المستعمر.
خيول هذه الرواية شخوص مشاركة في الحكايات" إيجابا وسلبا، وصانعة للأحداث، ومشاركة فيها، وتتكون من مجموع الكلام الذي يصنعها، ويصور أفعالها "().
قام الروائي بخلق شخصياتها()، والخلق هو الإبداع وعدم التقليد، بمعنى أنه أضفى عليها خصوصية تميزها عن غيرها، وبذلك يكون قد صنع فضاء روايته بكيفية خاصة، لا تشير إلا إليه. ونقل الشخصية عبر فضاء الكتابة إلى ذاكرة القارئ واشتغالاته، وأسس في فضاء القراءة وجهة نظر ما.
يبدع الكاتب الشخصية، وقوة إبداعها تعتمد على عيشها وحدها دون مساندة من أحد.
"فالأدب الحقيقي هو الذي يسمح لك بأن تكون واسطة لاستنباط أو اكتشاف أو اختراع شخصيات تعيش وحدها لا بوصفها امتداداً لك، في النهاية أنت تصبح امتدادها لا العكس"()
لم تجمع المعاجم على تعريف واحد للشخصية. وفي هذا دليل على تعدد المدلولات المستفادة من هذا الدال. فقد حصرت بعض المعاجم الشخصية في الشخص الذي يتخيله كاتب الأثر، ووسعت بعض المعاجم التعريف ليشمل الحيوانات المشخصة أيضاً().
إن التعامل مع النصوص يوفر كيفيات مختلفة، ويمنح اختلافات في حصر المفهوم، ولعل هذا الاختلاف يأتي من تشابك علاقات عناصر الفضاء الروائي شكلاً وموضوعاً. فتتعدد المفاهيم تبعاً لتعدد وجهات النظر.
مما تقدم نرى أن الخيل مع عدد من شخصيات الرواية حازت على البطولة لفعاليتها ومساندتها لذوات فاعلة تسعى إلى تغيير العالم من حولها، فأفراد عائلة الحاج خالد أبطال ايجابيون، يناضلون في سبيل الحرية متحمسون، نفوس جريئة مستبشرة لا يخيفها شيء حتى ولا الموت()، وكذلك خيلهم.
لقد تميزت شخوص الرواية التي تحمل سمة البطولة من البشر والخيول بأسماء دالة على الأصالة والمرجعية المستمدة من الزمان العربي الفاعل والمستقبل الحلم :فالرجال محمود وخالد وناجي وطارق. والأفراس: الحمامة وفضة والشهباء والأدهم، وهي معروفة النسب أبا وأما ولها شجرة عائلة تتميز بالنقاء والأصالة. فكانت أول شخصية من شخصيات الأفراس نتعرف عليها هي شخصية "الحمامة" التي كانت مفتتحا للسرد ومفتتحا لزمان غنائي وشاعري تعيش فيه الكائنات جميعها في انسجام وتآلف وتواصل، تفهم لغة بعضها، وكأنها في هذا تنتمي إلى زمان النبوة، وهاتف الغيب مسموع لديها. ولأن الاسم من مستلزمات الشخصية يفترض فيه أن يكون متناسبا ومنسجما ويحقق مقروئية، وللشخصية احتماليتها ووجودها. إن التنوع والاختلاف الذي يطبع أسماء شخصيات الرواية والقصدية التي تضبط اختيار المؤلف لاسم الشخصية ليست دون خلفية نظرية(). فالاسم علامة لغوية بامتياز. يعين الشخصية، ويجعلها معروفة وفردية. فهل يمكن أن يكون الأبطال بلا أسماء؟وهل يمكن أن تكون فرس أصيلة بلا اسم ؟!. أعطى الاسم فرادة للإنسان والحيوان، ولكنه لم يمنع تماهي الخيل بالإنسان، وتقاسم المصير، وتقاسم البطولة، والوفاء، والمشاعر والأحاسيس.
تقاسمت الخيول البيضاء البطولة مع شخوص الرواية، وقد شغلت مساحات واسعة من هذه الرواية، كما كان لها أكثر من دلالة، بحيث انها تضع القارئ أمام عدة تساؤلات. ولجوء الكاتب الى الخيول الاصيلة، البيضاء الجميلة، ليكون لها دور كبير في روايته، إنما جاء من باب تأكيده المتكرر على " الأصالة " فالخيول الأصيلة عدا عن جمالها الساحر، هي خيول وفيّة لفارسها، لا تتزاوج إلا مع الأحصنة الأصيلة من بنات جنسها، فمثلما لا تنقاد لغريب ولا تسمح له بامتطاء ظهرها، فإنها لا تسمح لحصان غريب عن جنسها أن يتزاوج معها حتى ولو كان أصيلا هو أيضا. ()
ظهر في الرواية حرص الانسان على فرسه الأصيلة، يكتب لها شهادة ميلاد متسلسلة من جهتي الأمّ والأب، ونادرا ما يقدم على بيعها مهما دفعته الحاجة إلى ذلك، وكأنها فرد من أفراد الأسرة أو العائلة، وإذا ما اضطر إلى إهدائها الى عزيز عليه فإن العرف والعادة أن يعيد المهدى إليه أوّل مهرة تنجبها إلى من أهداه إياها.
شاركت الخيول البيضاء في الافراح والاتراح وفي الكفاح حتى إنها سقطت قتيلة في المعركة نفسها التي سقط فيها فارسها شهيدا.
لقد أكدت هذه الرواية ما هو شائع في التراث الشعبي من تشبيه الانسان الجيّد والخيّر بالفرس الاصيلة، وتشبيه المرأة المحصنة الوفيّة بالفرس الأصيلة، وتشبيه الرجل الرجل بالحصان الأصيل، وكثيرا ما نسمع مخاطبة النساء بـ :"أمك أصيلة خلّفت أصيلة ".
ترصد الملحمة الروائية حياة ثلاثة أجيال من عائلة فلسطينية واحدة تنتمي إلى قرية (الهادية) الفلسطينية وثلاثة أجيال من نسل فرس أصيلة. ثلاثية تقوم على الإنسان والحيوان والمكان.
الرواية مقسمة ثلاثة أقسام تشكل المبنى العام للرواية: (الريح، التراب، البشر)، مستعرضة حياة ثلاثة أجيال من نسل "الحمامة"، الفرس المسروقة الأولى التي أعادها الحاج محمود لأهلها من عائلة السعادات، تلتها حمامة من الجيل الثاني (الابنة) التي قُدمت هدية للحاج محمود من عائلة السعادات لقاء إعادته للحمامة الأم، ثم الحمامة (الحفيدة) التي أُهديت للحاج خالد، وعلى ظهرها قاد أشكالاً من المواجهة ضد الانجليز، بعدما أصيبت بجرح غائر في ساقها. هذه الأبنية الثلاثة ترتبط فيما بينها ارتباطاً فنياً ملحمياً فتلتقي مصائر (الريح/الخيل، والتراب/الانسان، والبيوت/الوطن) مع مصائر الأجيال الثلاثة من البشر (جيل الحاج محمود، وجيل الحاج خالد، وجيل ناجي الحاج خالد) مع مصائر الأجيال الثلاثة من نسل الحمامة، وهي مصائر تراوحت بين الإصابة والموت والتشرد. تتزامن مع عائلةالحاج محمود شخصية "الهباب" كبطل ملحمي مضاد اجتمعت فيها كل مقومات الرجل الخسيس والمتوحش في آن واحد.
الثلاثيات تنطوي في داخلها على ثنائيات متعارضة كالحب والكره، والبطولة والخيانة، والوفاء والغدر. وتحمل في داخلها ثنائيات متبدلة كالتبدل الذي يحصل بين المرأة والفرس، وثنائيات متعاضدة كالعلاقة بين الفرس والفارس، فتظهر «الحمامة» تذرع الأرض عشقا وانطلاقا عندما يمتطيها الحاج محمود. وكذلك «فضة» و«الأدهم» و«الشهباء». لكل منها عاشق أو عاشقة. هذه الكائنات الأصيلة تفهم لغة أبناء الأرض. وتعيش ضمن ثنائياتها المتبادلة. وثلاثيتها المبنى.
لقد حاكى حب ناجي ابن الحاج خالد "الشهباء" قبل زواجه من خديجة حب أبيه «الحمامة». ولم يكن الحب مقصورا على الخيل فقط، فقد توسع ليضم الغزلان والحمام والجمال والماعز. ففاطمة (ابنة الحاج خالد) هي الأقرب للغزلان، تأتيها غزالة شاردة من قناص، تلوذ بها، تهمس لها فاطمة وتطمئنها، ثم تطلقها في السهل الكبير، حرة راكضة. كما تنجذب إليها كل مخلوقات البيئة. وكان انجذاب الفرس لها سبب لقائها بفارسها الذي قاسمته الحياة.
ولكن الحضور الرمزي للخيول يظل ممكنا حتى في الفصلين التاليين لكتاب الريح ، لأن هذا الحضور يمثل استراتيجية سردية مهمة ، كثيرا ما حاولت الرواية على مستوى الأحداث أن تؤكدها وكذلك على مستوى اللغة والوصف، فقد كانت سرقة الفرس بداية الرواية وهي تعادل سرقة الروح كما يقول خالد للسارق، كما أن ثمة شيئين هما إهانة المرأة وإهانة الفرس لا يسمح بهما في بيت الحاج محمود مؤسس الأسرة التي سنشهد من خلال يومياتها وأشخاصها أحداث فلسطين اللاحقة.
تتميز "زمن الخيول البيضاء" بالاتساع، والشمولية في تناولها لتاريخ القضية الفلسطينية، من أواخر القرن التاسع عشر وحتى النكبة في عام 1948. رواية ملحمية تزاوج بين جماليات الفن، وقساوة التاريخ، ورومانسية الشاعر، وواقعية الروائي لتكون في المنتج النهائي رواية ملحمية، تتوافر فيها خصائص البناء الروائي الملحمي من الناحيتين الموضوعية والفنّية.
اتسعت وشملت المكان والزمان والموضوع والشخوص: المكان والزمان هما المدى الواسع الذي يمكن أن يغطي تاريخ أمة وجغرافية وطن، والموضوع ما يرتبط بمصير شعب. والشخوص هم من ذوي منزلة مؤثرة تكون لأفعالها، ضعفها وقوتها وإدراكها، إنعكاسات مهمة على مصير الأمة وصيرورة التاريخ، حيث يترافق ذلك مع أسلوب أدبي رفيع ولغة فنيّة عالية في السرد والرواية وأشكال البوح. كما تنوّعت الشخصيات وتعددت وتلوّنت وفق السياقات الاجتماعية والثقافية والإيديولوجية، وتشكّلت روائياً ضمن أطر ومناخات عمّقت البنية التقانية والتشكيلية في الرواية، وتمكّنت بحكم كلّ مواصفاتها من أن تجيب عن أسئلة السرد في الرواية وتسهم في ضبط معماريتها وتوصيل مقولتها.
كما انطوت الرواية أيضاً على عدد معقول ومناسب من الشخصيات النسائية التي حضرت بتنوّع محدود يعكس حضورها الاجتماعي، ولعلّ الملاحظة السيميائية التي يمكن توكيدها في هذا السياق ذلك التناسق الجمالي والإشاري بين الخيول والنساء، كقيمة سردية تدعم البنية التقانية فيها.
الراوي كلي العلم سار على حافة المؤلّف الضمني، مشتبكا مع المؤلّف الحقيقي ليحقق التواصل الحيّ مع أحداث الرواية، والاندماج بفضاءاتها، والتفاعل مع رؤاها، وجاء الراوي متسلّحاً بالمعرفة التاريخية المسبقة وبشهادات حيّة، أشار إليها المؤلّف الحقيقي في عتبات الرواية المتعددة، وفي أحيان كثيرة يتحوّل الراوي / المؤلّف الضمني / المؤلّف الحقيقي إلى مروي له حين تظهر أصوات الشهادات الحيّة بالحروف المائلة.()
خلاصة
ونخلص إلى أن الخيل حازت في الرواية على مكانة رفيعة في التصنيف، حيث كانت أعلى مرتبة من الإنسان كون الخيل من الريح، ثم مع مسير الرواية تساوت مكانة الخيل بمكانة الإنسان، ولم يحز الحصان على مكانة متميزة فقط، فقد حازت الحيوانات الأخرى كالحمام والماعز والغزال والجمل على الرعاية والعناية والاهتمام، كما ظهرت خاصية التبدل بين الحمام والحصان واللعب الرمزي. فيظهر الحمام بأشكالٍ عديدة في الرواية، فمرّة يتّخذ شكل حصانٍ أبيض، وأخرى يطير حماما زاجلا ليوصل أخبار المقاتلين المشرّدين في الأرض، لكنّه يصبح في النّهاية الشّرَك والمصيدة مسبّبا مقتل الحاج خالد. وظهرت الخيل في الرواية شخصيات متفردة فاعلة تقاسم المناضلين البطولة والمركزية في العمل الروائي، وقد قدمها الروائي بتقنيات مختلفة أهمها اللقطات المشهدية التي يتميز بها أسلوب الروائي نصر الله، والمشهدية تحدد الزمان المكان ودرجة القرب والإضاءة والحركة والحس والإحساس كما بدا في المقطع "وصول الحمامة" وكما بدا في حكاية فاطمة مع جمل إيليا، كما بنيت الرواية على مجموعة من الحكايات المتقاطعة، والمتزامنة، التي تتضافر مع بعضها لتشكل الرواية الكبرى، وملحمة الشعب.
وتظهر فيها الثنائيات المتقابلة والمتبادلة والثنائيّات الرمزية التي تعطي للرّواية أبعادا وتفسح مجالا كبيرا للقارئ لينفتح النّص بين يديه على تأويلات مختلفة، وبهذا تُصبح ثنائيّات محفّزة مشوّقة، تعطي القارئ حقّه في التّفاعل. ثنائيات انبثقت عن ثلاثية قامت عليها الرواية، لتفسح مكانا للتبدل والتغيير.
المصادر والمراجع
1-Spencer, Nicholas. "Inhuman(e) Subjects :Postmodern Theory and Contemporary
Animals Liberation Ficlion." 187, trans.Wafa Alkhadra. Critical Studies, "From Virgin Land to Disney World: Nature and Its Discontents in the USA of Yesterday and Today", ed, Bernd Herzogenrath , 22 : 187-208, 2005.
2-Nietzsche, Friedrich. ‘Schopenhauer as Educator. ’Untimely Meditations.
Trans. R. J. Hollingdale. Cambridge, UK: Cambridge University Press, 91-125, 1983.
3-Lacan, Jacques. The Four Fundamental Concepts of Psycho-Analysis. Ed.
Jacques-Alain Miller. Trans. Alan Sheridan. New York: Norton, 1978.
4-Sanders, C.," Killing with Kindness: Veterinary Euthanasia and the Social Construction of a Personhood," Sociological Forum, 10:195-214, 1995.
5-Fox, Rebekah. "Animal Behaviours, Post-human lives: Everyday Negotiations of the Animal-human divide in Pet-Keeping," Social and Cultural Geography, Vol,7,No.4, August 2006. London:Routledge.
6-Kojève, Alexandre. Introduction to the Reading of Hegel: Lectures on the Phenomenology of Spirit. Ed. Allan Bloom. Trans. James H. Nichols, Jr. New York: Basic, 1969.
7) (الصاحبي التاجي 697ه)، الحلبة في أسماء الخيل المشهورة في الجاهلية والإسلام، تحقيق ودراسة، د.حاتم الضامن، كلية الآداب، جامعة بغداد /مؤسسة الرسالة، ط2.
(8) الأصمعي، كتاب الخيل، د.نوري حمودي القيسي، مستلة من مجلة كلية الآداب، ع12، 1969، مطبعة الحكومة بغداد، 1970.
(9) الغبرة، مهند، العماد في علوم الخيل، دار طلاس للدراسات والترجمة والنشر، ط1، 1993.
(10) الأرضروملي، قدري، الخيل العراب، وفضلها على الأنسال العالمية، مطابع ثنيان، ط1، 1971 .
(11) نصرالله، إبراهيم، زمن الخيول البيضاء، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ط1، 2007 .
(12) فورستر، أ. م.، أركان الرواية، تر. موسى عاصي، طرابلس، لبنان، دار جروس برس، 1994.
(13) قسومة، الصادق، طرائق تحليل القصة، دار الجنوب للنشر، تونس، 2000.
(14) مارتن، والاس، نظرية السرد الحديثة، تر. حياة جاسم، 1997.
(15) الكيلاني، مصطفى، الأدب ا لحديث والمعاصرة، إشكاليات الرواية، المؤسسة الوطنية للترجمة والتحقيق والدراسات، ثبت الحكمة، 1990.
(16) عثمان، بدري، بناء الشخصية الرئيسية في روايات نجيب حفوظ، دار الحداثة، بيروت، ط1، 1986.
(17) الرقيق، عبد الوهاب، في السرد، دار محمد الحامي، تونس، صفاقس، ط1، 1998.
(18) زيتوني، لطيف، معجم مصطلحات نقد الرواية، مكتبة لبنان، دار النهار للنشر، لبنان، ط، 2002
(19) غربيه، آلان روب، نحو رواية جديدة، تر. مصطفى إبراهيم، دار المعارف، .
(20) خوري، إلياس، الطريق، ع1، كانون ثاني شباط، 2001، ص 146-147، مقابلة مع إلياس خوري.
(21) قسومة، الصادق، طرائق تحليل القصة، دار الجنوب للنشر، تونس.
(22) عياد، شكري، البطل في الأدب والأساطير، دار المعرفة، القاهرة، ط2، 1971.
(23) بحراوي، حسن، بنية الشكل الروائي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، ط1، 1990.