نساء إبراهيم نصرالله الرائعات جريدة الغد الأردنية    

زمن الخيول البيضاء

نساء إبراهيم نصرالله الرائعات

أمل صقر *

جريدة الغد الأردنية    

"زمن الخيول البيضاء" رواية ملحمية فاتنة لإبراهيم نصرالله، تكتب فلسطين كما لم تُكتب من قبل، وتنسج في معمار آسر، واقتدار فني فريد، حكايات الأرض؛ والبشر؛ والبطولة؛ والعشق؛ والانكسار.

من موقع المأخوذ بسحر الرواية أكتب، في انحياز لا أنكره لعمل يعيد وسط طوفان من الألم والقهر والظلم اكتشاف إنسانية الإنسان؛ ونقاءه؛ وتساميه فوق الجراح.

من الواحة المترامية الأطراف، والممتدة مروجاً وأزهاراً وعصافير وجداول رقراقة، أختار شجرة واحدة، وأتحدث عن نساء "زمن الخيول البيضاء"، اللائي صنعهن نصر الله من الخيول التي تتنفس حرية وكبرياء، وأشجار الزيتون التي تلتحم أصولها بالأرض الطيبة، فيما الزيت النوراني الذي تعيش الشجرة لتهديه للبشرية يتطلع إلى السماء.

النساء في الرواية العربية، كما يقول تقرير التنمية الإنسانية العربية الرابع، يتوزعن على فئات أربع: "المرأة المستلبة الحقوق، والمناضلة، والمتمردة، والمتعددة، بمعنى الانشطار والتشظي وتعدد الهويات في الكائن الواحد". أما نساء "زمن الخيول البيضاء" فهن أجمل وأقوى وأكثر اتساقاً مع ذواتهن ومجتمعهن، وأكثر إيماناً بالحياة والوطن، وقدرة على الفعل. لا مكان في الملحمة الفلسطينية الموجعة لنساء هامشيات أو مقهورات أو مسلوبات الحقوق، فهن في قلب المشهد، إن لم يكنَّ قلبه، والبؤرة الأكثر اجتذاباً للضوء حتى الاحتراق. ونضال النساء في الرواية فعل ذو منطلق إنساني، لا ينفصل عن الموقف الذي يخترنه في الحياة ككل، بل يصدر عنهن صدوراً طبيعياً، أقرب إلى فوح العبير من الزهور.

في الرواية نماذج للأبطال كأعظم ما تكون البطولة، وأهم قيمهم احترام المرأة. خالد الحاج محمود، أيقونة الرواية، وفارسها الأسطوري، يقول: "هل يُنسى أجمل ما في الدنيا: المرأة". وفي بيت الفارس العريق: "في بيت الحاج محمود، وقبله بيت أبيه الحاج عمر، كان الشيء الوحيد الذي لا يُسمح بأن يقع: إهانة امرأة أو إهانة فرس".

الأوغاد والخونة في الرواية هم من يتحدثون عن المرأة باحتقار، يقول أحدهم لمساعده: "قل لنسائك الذين تفخر بهم أن يتحركوا". الشخص الذي يصف رجال مساعده بالنساء، تحقيراً، هو ذلك الذي يرضخ لأسوأ انواع الإهانة، وأقسى ضروب التحقير.

الآخر، الذي "لعن اليوم الذي وُجدت فيه المرأة على الأرض"، قاتل كريه، عمل جابياً للضرائب لدى الأتراك، ومارس كل أشكال القهر والتعذيب، إلى أن كسرته "ريحانة" إحدى نساء الرواية الأسطوريات.

منيرة، أم بطل الرواية، كانت تحكي لأبنائها أخطاءها الصغيرة التي كان يغفرها الزوج المحب الصبور، وتقول: "حتى يتعلموا كيف يحترموا بنات الناس حين يتزوجون". وتفخر بأنها فتحت عينيها في اللحظة التي رأت فيها زوجها لأول مرة، ومن يومها صارت العرائس يفتحن أعينهن. وهذه الأم التي دفنت زوجاً وأبناء وأحفاداً، تتبرع بحليها لتنقذ الرجل الذي حاول قتل ابنها البكر، وحين لا تكفي النقود، فإنها توظف الأمومة، وتنتزع العفو عن الخائن.

في لحظة صراع فاصلة في الرواية يتواجه فارسان، كلاهما نبيل، وكلاهما يعتقد أنه على حق. وفي لحظة التفاخر يعرِّف أولهما نفسه باسم أخته: "لن أكون أخو خضرة إن لم أكسر رجلي كل من يحاول الاقتراب من القطيع"، فيرد الفارس الآخر: "ولن أكون أخو العزيزة وأبو محمود إن لم نأخذها للبلد الليلة".

نساء الرواية قادرات على أن يمسكن بمصيرهن، ويخترن من يردن، في إطار من احترام قيم المجتمع وأعرافه، لا التمرد عليها أو الانتقاص منها. سمية، زوجة بطل الرواية كانت طفلة حين أحبت رجلاً تزوج وترمَّل وحارب واغترب وارتحل وعشق امرأة كالحلم، لكنها اختارته. قالت: سيتزوجني، وتزوجته.

ريحانة، هي الأخرى، أحبت رجلاً رفض الرضوخ لطغيان أحد أذناب الإنجليز. و"قالت لأمها: سأتزوج هذا الرجل". ذهلت الأم، ولكنها رضخت لرغبة ابنتها وذهبت إلى الرجل لتبلغه بأن ابنتها تريده زوجاً، فقال الرجل: "قولي لها إذا كان هنالك في هذه الدنيا شيء يسمى الشرف، فلا شيء يشرفني أكثر من هذا".

نساء الرواية كن قادرات على الرفض أيضاً، حين لا يكون الشريك المفروض عليهن على القدر الذي يرضيهن من الرجولة والنبل. ياسمين، قالت لأمها: "لقد قررت. لن يكون لي أولاد من قاسم"، قالت الأم: "..هذه مسألة لا تستطيع امرأة أو رجل التحكم فيها". وردت الابنة: "لا يا أمي أنا أعرف نفسي، جسمي لا يحبل ولا يلد، لأن روحي هي التي تحبل وهي التي تلد".

ريحانة ذاتها رفضت الهبَّاب، القاتل الرهيب: "في حالات كثيرة لم يكن يتردد في إطلاق رصاصة واحدة تستقر غالباً في جبين الزوج. وقبل أن تدرك المرأة ما حدث ينحني بيد واحدة يلقي بها خلفه ويمضي وسط صمت ودموع كثيرين يتأملون المشهد دون أن يجرؤ أي واحد منهم على النطق بكلمة واحدة". قتل الهباب زوج ريحانة ليظفر بها، فعاش حياته يتجرع إحساساً بالخزي والعجز أمام قوتها وإصرارها.

أخت خالد الحاج محمود، العزيزة، أسطورة أخرى. هجرت زوجها الخائن بعد أن وشى بأخويها وشنقا على يد الأتراك، ولكنها ركبت فرسها في ليلة عاصفة لتقتله بعد أن جرفت السيول عظام أخويها من القبر القريب. "قالت: أنا لم أنس. وكأن هناك من يسألها. كيف يمكن لي أن أنسى؟ ولكنني أوشكت أن أسامح".

العزيزة، "استطاعت أن تربي أولادها رافضة أي مساعدة من أحد، حتى منه، هو أخوها الذي تعتبره البيت وسقفه".

عفاف، زوجة الصحافي محمود ابن الحاج خالد، لم ترضخ لإحساسه بالتفوق والتعالي، وحين لجَّ في خصامه رفضت أن تنحني: "هو الذي بدأ وعليه أن ينهي هذه المشكلة بنفسه إذا أراد إنهاءها. لن أنكسر أمامه أبدا". رفضت عفاف أن تتعلم القراءة والكتابة حين كان ذلك إملاءً، لكنها تعلمت وحدها بعد ذلك: "كانت عفاف تريد أن تفاجئه بأنها تعلمت القراءة على أصولها، كانت تريد أن تؤكد له أنها تعلمت لأنها تريد أن تتعلم لا لأنها مُجبرة على ذلك. كانت تريد أن تقول له إنها تحبه".

صورة المرأة في "زمن الخيول البيضاء" ردُّ اعتبار للمرأة التي يبالغ الإعلام العربي في تصويرها كائناً استهلاكياً، استعراضياً، ثرثاراً، سطحي التفكير، ضيق الأفق، مهتز الإرادة، مغرماً بالتفاخر الأجوف، أو جسداً يخاطب الغرائز والشهوات.

* باحثة سياسية مصرية

Previous
Previous

New Statesman

Next
Next

تبادل الأدوار بين الإنسان والحيوان في رواية"زمن الخيول البيضاء"